يفتّ السجانون عضد المساجين بالعتمة والظلام والقهر، فإذا ثبت المسجون، وهوى الظلام المفروض عليه، فأنّى

لآسره أن يقدر عليه وبأي الأساليب يصرفه عن قضيته؟

تلك هي الفرضية التي تقوم عليها أشهر قصيدة نُظمت بمناسبة مقارعة الظلم وأُنشدت على لسان المعتقلين وانتشرت في الأقطار العربية لتكون من الأناشيد المدرسية المقررة الشائعة في فترتها.

 

لسنا تجار أخبار، بل موجّهين:

 

خلف الكلمات الصادقة النابعة من عمق التجربة يقف الصحفي المناضل، الوطني الأديب: نجيب الريس.

الذي ولد عام ١٨٩٨ في حماة فتعلم علوم القرآن منذ صغره، وانتقل مع عائلته إلى حمص وتلقى دراسته الأولية من أساتذة خصوصيين وتمكّن بقوة من اللغة والعلوم الدينية ثم اتجه في شبابه إلى دمشق عام ١٩١٨ واستقرّ فيها. عمل في الصحافة وكتب في جريدة "المقتبس" ثم استقل وأطلق جريدته الخاصة، جريدة "القبس" عام ١٩٢٨ التي دعم من خلالها الحركة القومية والنهضة الوطنية السورية ضد فرنسا.

 

ناضل الانتدابَ نضالاً جريئاً لا هوادة فيه فلاحقته الضغوطات ولم يكن ليخرج من السجن إلا ليحارب بقلمه مجدداً دون كلل ولا ملل فيُسجَن ثانيةً أو تُعطَل جريدته مرة أخرى، حتى كان مجموع سجنه ثمانية سنوات متفرقة.

 

نقل عنه أحد مراسلي جريدة القبس قولَه: "إننا لسنا تجار أخبار وإنما نحن موجِهون ويجب أن نقول في غير مناسبة ما لا يتاح للزعماء قوله إلا في المناسبات."

 

مبادئه الواضحة تجلّت في كرهه لأعوان الفرنسيين أكثر من الفرنسيين أنفسهم لقناعته أن أمثالهم هم من يرسون حكم المحتل ويثبّتونه ولولاهم لما تجرّأ محتل ولا طمع غازٍ.

 

نشيد ثوري يولد في جزيرة أرواد:

 

كان نجيب في العشرينيات عندما جاء تشارلز كرين الديبلوماسي الأمريكي ليجتمع مع القادة الوطنيين السوريين في دمشق الذين نقلوا إليه رفض السوريين للاحتلال، ولم يكد ينتهي الاجتماع إلا وقد اعتقلت السلطات الفرنسية القادة وردّت على المظاهرات الحاشدة الرافضة لاعتقالهم بالرصاص، واقتيد نجيب على إثرها إلى جزيرة أرواد حيث نُفي فيها إذ كانت سجناً لرجال الحركة الوطنية.

 

وهناك، كتب قصيدته الخالدة ممجداً النضال من أجل وطن يحبه ويحرص على الاستمرار في درب تحريره وإن لاقى في سبيل ذلك ما لاقى:

 

يا ظلام السجن خيّم

إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا

فجر مجد يتسامى

إيه يا دار الفخار

يا مقر المخلصينَ

قد هبطناك شباباً

لا يهابون المنونَ

وتعاهدنا جميعاً

يوم أقسمنا اليمينَ

لن نخون العهد يوماً

واتخذنا الصدق دينا

يا رنين القيد زدني

نغمة تُشجي فؤادي

إن في صوتك معنى

للأسى والاضطهادِ

 

لُحنَت هذه الأبيات فيما بعد وجرَت على لسان كلّ حر وخرجت من الحناجر المأسورة المقهورة وهي تضجّ بالعزة وتصر على الكفاح وتأسى لحال الأوطان.

 

رحيلٌ روّع دمشق

 

صحا الريس في التاسع من شباط ١٩٥٢ فأدى فريضة الفجر وتلا آيات من القرآن كعادته ولما همّ بممارسة روتينه اليومي شعر بضيق في التنفس وكان الموت أسبق إليه من الطبيب.

موته روّع دمشق حينما سمعت من محطة الإذاعة السورية في التاسعة صباحاً نعي نجيب الريس وانتهاء حياة من الحيوات الحافلة بالثبات على المبدأ ومكافحة المحتل.

 

استمعوا إلى قصة وقصيدة الشاعر كاملة في حلقتنا من بودكاست وحي القصيد بعنوان "يا ظلام السجن خيّم- نجيب الريس"

 

 

 

 

 

المصادر

حلقة نجيب الريس من بودكاست وحي القصيد.

هذا اليوم في التاريخ، المجلد الثاني، نجدة فتحي صفوة، ٢٠١٥، دار الساقي.