نادر شاليش…شاعر المخيمات وأنيس المهجّرين
على كثرة الشعراء الذين نعرفهم ووفرة أسمائهم وقصائدهم وحكاياتهم الملهمة أو الصعبة التي ولّدت شخصياتهم المبدعة فلعلّ من لا نعرفهم من الشعراء المبدعين ومن لم تصلنا أسماؤهم هم أكثر بكثير.
لم تُسلطِ الشهرة أضواءها على اسم مثل نادر شاليش، حتى إنّ ديوانه الشعري لم يصل إلى قرائه ولم يأخذ مكانَه الطبيعي كغيره من الدواوين على رفوف المكتبات، لكنّ أبياتاً صادقة من ديوانه حفظها تسجيل رديء بصوت الشاعر وإلقائه كانت كفيلة بأن تبكي عيون السامعين وتطير باسمه في عالم المخيمات والنازحين واللاجئين ، فمن هو
نادر شاليش الشاعر السوري الملقَب بشاعر المخيمات وعميد المهجرين والشاعر المغمور ؟
مولده وبداياته:
ولد شاليش في ريف حماة الشمالي، تحديداً في كفرنبودة، عام ١٩٤٠.
كان اليتم أول تحدياته الحياتية الصعبة إذ عاش مع جدته، وفي هذه الظروف كثُر تغيّبه عن المدرسة ليعمل في رعي الأغنام مع إخوته دون أن يدير ظهره لدراسته بشكل كلّي فحرص على التقدم لامتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية واجتازها بذكائه ونباهته التي عرفت عنه.
السيفُ والقلم جنباً إلى جنب:
عام ١٩٥٩ تطوع الشاعر في الكلية الحربية قبل وصول البعث إلى السلطة في سوريا وتابع تحصيله العلمي فدرس في كلية الشريعة في جامعة دمشق عام ١٩٦٨ كما شارك في حرب تشرين قائداً لكتيبة دبابات، ثم انتقل إلى التعليم بشهادة الشريعة الإسلامية في السلك التربوي حتى تقاعده عام ١٩٩١.
وبذلك جمع القوةَ العسكرية بالفكر والعلم وكأنما يحمل السيف والقلم جنباً إلى جنب كرسالةٍ حياتية متوازنة.
اعتقالٌ غيّر مسيرة حياته:
ولمجرد انتمائه إلى مدينة حماة ولكونه من حاملي إجازة كلية الشريعة فقد اعتقل لستة أشهر بعد أحداث الثمانينيات في حماة، وهذا ما غيّر مسارَ حياته فيما بعد، لتتحول إلى حياة عادية بسيطة، فبعد أن جمع الفكر والقوة انتقل في مرحلته الجديدة ليمزج بين الغرس والفكر عاملاً في الزراعة ومقدِّماً دروساً خصوصية مجانية للطلاب.
هذه الحرب لن تخمد قريباً:
اندلعت الثورة السورية عام ٢٠١١ فقوبلت بالعنف والحصار والقصف، أما الشاعر نادر شاليش فقابلَها بالتأييد والنصح وإيقاد العزائم، كان على علم بطبيعة النظام نظراً لعمله في الجيش سابقاً ولذا ترددت على لسانه مقولة أكثر تكرارها ونُقِلَت عنه: "إن هذه الحرب لن تخمد قبل أقل من عشر سنوات وليس كما تعتقدون."
نزوحٌ على مضض:
كان شاليش وعائلته من بين العائلات الكثيرة التي هُجّرَت وتشردت بفعل حملات النظام والمعارك الدائرة في البلاد، ورغم ضرورة النزوح فإنه لم يرد في البداية الابتعاد عنها كثيراً فلجأ إلى بلدة صغيرة مرتفعة تشرف على بيته ليطل منها عليه ويُشبِع شوقه بالتلويح له من بعيد وكتابةِ الأبيات فيه إذ قال:
إني سأمضي إلى أطراف مشرفةٍ
منها تطل على الآثار عينانِ
السقف يحفظ ذكرانا ويحفظها
لا يُسلم السقفُ ذكرانا لنيرانِ
ديوان الأطميات، وليد المخيمات:
لم تتحقق أمنية شاليش بالعودة أو حتى بالبقاء في البلدة القريبة التي تتيح له البكاء على أطلال داره، فابتعد أكثر وأقام في مخيم أضنا، فاستفزّ النزوح والتهجير قلمَه وأحيا شِعره وبعث كلماته المشبعة بالأحاسيس من مرقدها ليولَد ديوانه الأول والوحيد "الأطميات" تحت سقف خيمته وبخطّ يده ولم يعثر على دار نشر أو جهة تتبناه وتطبعه لتوصله للقراء.
تكوّن الديوان من حوالي ستين صفحة وحوى عدة قصائد أبرزها:
نشيد الثورة، منهاج ثورة الكرامة، مأساة الخالدية، حرب الإرادات، رسالة الروح إلى الدار.
ورغم عدم طباعة ديوانه إلا أن صوته وصل للأسماع والقلوب بطريقة مختلفة حينما التقطته عدسة جوالٍ بسيط وهو يلقي أشهر قصائده "رسالة الروح إلى الدار" بنبرة مؤثرة اخترقت المشاعر كسهمٍ نافذ فحلّق طيرُ أبياته إلى وجهته بنجاح وعشّش في قلوب كل المهجرين الذين بكوا معه وشاطروه تجربته وأحاسيسه.
حسراتٌ تتفاقم إلى سرطان:
مع وصول شاليش إلى تركيا وتنقّله بين الريحانية وأنطاكيا لم تنتهِ معاناته، أنهك السرطان جسده، وأنهك فقده لولديه وحفيده روحه حتى توفي في أيلول عام ٢٠٢١ ودُفن في مقبرة قرب مدينة الريحانية التركية تاركاً خلفه أبياتاً مشحونة بالشجون والحنين للدار تمنّى فيها العودة لكن دون أن يشهد التطورات الأخيرة التي أطاحت بالنظام في الثامن من كانون الأول عام ٢٠٢٤ شأنه شأن العديد ممن قضوا بعيداً عن بلادهم و أذكى المنفى والمعاناة إبداعاتهم دون أن يأخذوا حقهم من الاهتمام في الأوساط الثقافية المعنيّة إلا من جمهور ضيق تابعَهم لصدقهم وقربهم منه ومعايشتهم لما يعايشه.
ورغم رحيله ظلّت قصيدة شاليش حاضرة، بصوته، وبنغمتها الحزينة بعد أن لُحِنَت وأُنشِدَت، لتتردد في الأجواء شاهدة أبدية على ما خاضه من حسرة بعيداً عن أرضه التي اقتُلع منها رغماً عنه:
أرسلت روحي إلى داري تطوف بها
لما خطانا إليها ما لها سبلُ
أن تسأل الدار إن كانت تذكّرنا
أم أنها نسيت إذ أهلها رحلوا
أن تسأل السقف هل ما زال منتصباً
فوق الجدار شموخاً رغم ما فعلوا
أما أنها ركعت للأرض ساجدة
تشكو إلى الله في حزن وتبتهلُ
هيهات يا دار أن تصفو الحياة بنا
ويرجع الجمع بعد النأي يكتمل
إن مت يا دار أو طال الزمان بنا
فالصبر يا دار لا يضعف لنا أمل.
استمعوا إلى قصة الشاعر وقصيدته كاملة في برنامجنا المميز وحي القصيد