دار ابن لقمان….حيث
للمكان ذاكرة تماماً كما الإنسان، ولعلك لو دخلت يوما متحف مدينة المنصورة القومي في مصر وتجولت في طرقاته ودارت عينك في كل ركن فيه لوجدت التاريخ يطالعك، ينبعث لك من عينين تبدوان غريبتين عن المكان -الذي يمتلىء بتفاصيل تخبرك عن هويته العربية الإسلامية- بلونهما الفاتح وشقرة الشعر تخبرانك عن الهوية الغربية للتمثال القائم، أجل فهنا "دار ابن لقمان" وهذا تمثال"لويس التاسع" أسيراً.
تاريخ تأسيس الدار
تأسست دار ابن لقمان مع مدينة المنصورة أو جزيرة الورد كما كان اسمها في ذلك الوقت حين أمر الملك الكامل ببنائها عام 616هـ-1219م، وتنسب الدار إلى قاضي المدينة حينها وهو القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتب ديوان الإنشاء في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقد بقيت تحمل اسم القاضي حتى عام 1997م حيث تحول اسمها إلى متحف المنصورة القومي الذي بقي شاهداً على مرحلة مهمة في تاريخ مصر وبطولات خالدة للمسلمين فيها.
الحملة الصليبية السابعة
كان لعودة بيت المقدس إلى حكم المسلمين عام 1244م أثرٌ بالغٌ في أوروبا، فبدأ التجهيز لحملة صليبية جديدة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا الذي أراد أن يصنع لنفسه مجداً عظيماً لا باستعادته بيت المقدس وحدها وإنما الشام ومصر كاملة.
لأجل ذلك بدأت الاستعدادات للحملة الجديدة بعناية فائقة، وعلى مدى ثلاثة أعوام حشدت أوروبا أقوى مقاتليها وأفضل فرسانها، وتحركت القوات الصليبية البالغ عددها وقتها قرابة خمسين ألف مقاتل نحو مصر وكان ذلك عام 1249م ، يوم كانت مصر تحت حكم السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، والذي كان مريضاً فعين الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ قائداً للجيش.
نزلت القوات الصليبية على شواطىء مدينة دمياط أولاً، ولما كان السلطان أيوب على فراش الموت أشيع أنه مات فانسحبت الحامية التي تدافع عن المدينة في خطأ فادح تسبب في سقوط دمياط في يد الصليبين دون قتال يُذكر، وعلم السلطان نجم الدين بذلك فاختار للقائهم مدينة المنصورة الواقعة على النيل وأمر بأن ترابط السفن الحربية في النيل حتى تحاصر سفن الصليبين وتمنع خطوط إمدادها.
لكنّ الموت عاجل السلطان نجم الدين قبل الواقعة، فكتمت زوجه شجرة الدر أمر موته خوفاً من تدهور معنويات الجيش، وأرسلت سراً لابنه توران شاه كي يأتي ويستلم عرش والده، وجعلت قيادة الجيش لفارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وأمرتهما بالاستمرار في التجهيز لمعركة المنصورة التي وقعت عام 1250 م وحقق فيها المسلمون نصراً عظيما.
لويس التاسع أسيرا
ساءت حالة الجيش الصليبي بعد الهزيمة في معركة المنصورة،وكان توران شاه قد وصل واستلم الحكم فشدد الحصار المفروض على الصليبين في النيل فلم تستطع سفنهم الاتصال بقاعدتهم في دمياط، فما كان أمام لويس التاسع إلا أن يحاول الفرار في جنح الليل بما بقي من جيشه نحو دمياط، ولكن جيش المسلمين طاردهم ولحق بهم عند مدينة فارسكور حيث دارت آخر موقعة في هذه الحملة، وكانت معركة طاحنة ألحق فيها المسلمون بالجيش الصليبي هزيمة ساحقة فقتل نحو 30 ألفاً منهم وأسر الآلاف وكان على رأس الأسرى قائد الحملة لويس التاسع ملك فرنسا الذي اقتيد مكبلاً إلى دار ابن لقمان حيث بقي في الأسر لمدة شهر حتى خضع لشروط المسلمين لفك أسره، وكان منها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب، وأن يسلم دمياط ويطلق جميع الأسرى المسلمين، بالإضافة لتعهده بعدم العودة إلى مصر.
وقد وصف الشاعر جمال الدين ابن مطروح الهزيمة المدوية التي لحقت بالملك لويس التاسع وأسره في دار ابن لقمان في أبيات نقشت في ذاكرة ووجدان المصريين على الدوام، فيقول:
قل للفرنسيس إذا جئته
مقال صدق من قؤول فصيح
أتيت مصرا تبتغي ملكها
تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم
ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم
بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا ترى منهم
إلا قتيلا أو أسيرا أو جريح
فقل لهم إن أضمروا عودة
لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باق والطواشي صبيح
ومنذ ذلك اليوم أصبحت "دار ابن لقمان" معلما مميزاً لمدينة المنصورة، ورمزاً خالداً على صمود وبسالة أبناء تلك المدينة، وقد تم تحويلها إلى متحف يضم تمثالاً للملك لويس التاسع أسيراً، بالإضافة لبعض الأسلحة التي استخدمت في تلك المعركة، وكذلك مجموعة من اللوحات الزيتية التي تمثل موقعة المنصورة العظيمة.