في بلادنا العربية أحياء عريقة تشعر حين تدخلها كأنها تأخذ بيديك وتُعيدك أزمنة إلى الوراء، تعرفك بحكايات الناس والمكان، تقص عليك قصص من ساروا فيها ذات يوم بعيد، تعيد لك ذكرى الشعراء والأدباء والمقاومين وحتى الذعار والفسقة، و"الجمالية" واحد من هذه الأحياء.
لو جاز لنا أن نعتبر العاصمة المصرية القاهرة كائناً حياً لكان حي "الجمالية" بكل تأكيد قلبها النابض، ولا يحتاج المرء لكثير من الأدلة على هذه الأمر، فيكفيك أن تذهب وتسير معنا في جولة سريعة إلى هذا الحي لتدرك هذه الحقيقة..
الجمالية ..مركز التاريخ الاسلامي في القاهرة
"الجمالية" حي كبير، يضم كثيراً من المناطق التاريخية والأثرية مثل منطقة الحسين ومنطقة الأزهر وخان الخليلي بما تحويه هذه المناطق من آثار إسلامية جعلت اليونيسكو تدرج القاهرة الإسلامية ضمن مناطق التراث العالمي عام 1979 م.
يُعتبر حي الجمالية واحداً من أقدم أحياء القاهرة التي بناها جوهر الصقلي عام 358 هـ/969 م، غير أنه لم يكن يُعرف بالجمالية في ذلك الوقت، وإنما أُطلق عليه هذا الاسم لاحقا، حيث يُذكر أنه سُمي بهذا الاسم نسبة إلى الأمير جمال الدين محمود الأستادار الذي بنى مدرسة فيه عام 1409 م وكانت من أعظم مدارس القاهرة، وكانت حدود هذا الحي من الشرق عند شارع المعز لدين الله الفاطمي، ومن الشمال أبواب القاهرة الفتوح والنصر، ومن الغرب جزء من السور الفاطمي، ومن الجنوب شارع الأزهر.
والجمالية شاهدٌ حيٌ على تطور أساليب العمارة الإسلامية بما تضمه من المساجد والمدارس والخانات والأسبلة التي يعود تاريخ بنائها إلى أزمنة مختلفة، بعضها بنيت أيام الفاطميين وبعضها أيام الأيوبيين وأخرى في عهد المماليك والعثمانيين، فمساجد الأزهر والأقمر والحاكم بأمر الله تعود جميعها للعصر الفاطمي، بينما المدرسة الكاملية تعود إلى الأيوبيين، ومجموعة قلاوون هي شاهد على عهد المماليك.
ملتقى الأدباء والمفكرين
والجمالية ليست منطقة أثرية أو تاريخية فحسب ولكنها منطقة سكنية أيضاً، ولعل هذا ما يميزها، إذ يمتزج التاريخ بالواقع فيخلق للناس حالة فريدة من معايشة الأزمنة الغابرة كأن عهدهم بها قريب، ولعل هذه الحالة نفسها هي التي جعلت الجمالية مهوى أفئدة كثير من الكتاب والشعراء والمبدعين الذين يبحثون عن الإلهام وهم يقلّبون أنظارهم بحثاً عن الجمال ومعانيه، وقد كان مقهى الفيشاوي الواقع بالقرب من خان الخليلي مقصداً لهم، ولذلك لم يكن من الغريب أن يكون واحد من أهم الكتاب المصريين والعرب بل والعالميين ابناً لتلك المنطقة، فنجيب محفوظ الذي نشأ في الجمالية وتأثر بها أيما تأثر وكتب عنها وخلدها في كثير من أعماله وأبرزها "الثلاثية" يصف جماليته قائلاً: "إن هذا الحي التاريخي حي الجمالية أو شياخة الجمالية ظل يأسرني داخله مدة طويلة من عمري، وحتى بعد أن سكنت خارجه، وحين استطعت أن أفك قيود أسره من حول عنقي لم يأتِ هذا ببساطة، إنك تخرج منه لتعود إليه، كأن هناك خيوطاً غير مرئية تشدك إليه، وحين تعود إليه تنسى نفسك فيه، فهذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل تستنشقها من دون ملل".
موطن الحرف التراثية
نوع آخر من الفن منح الجمالية هذا الزخم الثقافي والحضاري وهو فن الحرف اليدوية، إذ تعد الجمالية واحدةً من أهم المناطق التي تزخر بالحرف اليدوية على اختلافها وتنوعها، فمنطقة الغورية مثلاً تشمل شارع الخيامية الذي يضم أمهر الحرفيين في هذا الفن الأصيل، بينما منطقة النحاسين تزدهر فيها حرفة النقش على النحاس وصناعات الخشب والزجاج وغيرها كثير من الحرف التراثية التي تزخر بها مصر.
ولعلّنا إذا تحرّينا الإنصاف في وصف منطقة مثل الجمالية لكانت كلمة متحف مفتوح هي أدق تعبير، فالمنطقة مأهولة بآثار العصور القديمة، وكل موضع فيها يحكي قصة مختلفة من تاريخ مصر العظيم.
#مصر
القاهرة #
تراث
الجمالية
أحياء عريقة