الحارث بن عبّاد…من الحياد إلى الثأر

……

تُلحِق الحروب الأذى بمفتعليها، لكنها كثيراً ما تُلحقِه بمن اعتزلوها أيضاً فتقُحِم المحايدين في وسط أحداثها وتورطهم بعدما تجنبوا التورط وبعد أن قالوا بألسنتهم بأنه لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

 

الحارث بن عباد البكري يخاطب كسرى:

 

الحارث بن عباد حكيم فصيح، شاعر وفارس، من سادات بني بكر، مكانته العالية بين العرب تتضح عبر خطبة ألقاها في حضور كسرى، إذ كان العرب يرسلون وفودهم إلى ملوك الفرس لأغراض سياسية وتجارية، والحارث بن عباد كان واحداً من هؤلاء، جرى حوار بينه وبين الملك وردّ خلاله الحارث بردود فصيحة بليغة أبهرت مستمعه، ومما قاله حينها: "دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها، ونحن جيرانك الأدنون وأعوانك المعينون خيولنا جمة وجيوشنا فخمة، رماحنا طوال وأعمارنا قصار."


ولمّا قارعَه كسرى بقوله: "أنفس عزيزة وأمة ضعيفة؟" جرى بينهما حوار جادَ فيه الحارث بردوده القوية، قائلاً: "أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرراً بنفسه على الموت؛ فهي منية استقبلها، وجنان استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدماً وأحبسها وهي تصرف بها، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خضخاضها، حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكًا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دمًا، وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم" فدفع كلامه كسرى للتساؤل عن صحة ما يدعيه لتأتيه إجابة الحاضرين بأن قوله صحيح وأن فعاله أنطق من لسانه، ويبدو أن كسرى أدرك مكانة الحارث واقتنع بها فقال: "ما رأيت كاليوم وفداً أحشد ولا شهوداً".

 

لا أصالح تغلب حتى تكلمني بهم الأرض:

 

عاصر الحارث حرب البسوس بين قبيلتي تغلب وبكر ولم يخضها، إذ تنحّى بأهله وحل وتر قوسه ونزع سنان رمحه وقال لا ناقة لي فيها ولا جمل.

إلى أن قتل المهلهلُ ابنَ الحارث بجيراً قائلاً له: "بُؤ بشسع نعل كليب." ضارباً بنصائح امرئ القيس عرض الحائط، وكان امرؤ القيس يحاول إثناءه عن قتل بجير مذكراً إياه بحياد أبيه الحارث: "إياك أن تحقر البغي والظلم، لقد اعتزلنا عمه وأبوه وأهل بيته وتركوا قتال بكر، فخلِّ عنه." لكن المهلهل أبى ولم يسمع للنصيحة طاعناً بجيراً برمحه حتى خرج من ظهره.

 

وقد كان الحارث أحلمَ أهل زمانه يسعى لإنهاء الحرب وتأمّل أن مقتل ابنه سيصلح بين بني وائل واصفاً إياه بـ "نِعمَ القتيل" فلما وصلته مقولة المهلهل وأنه قتل بجيراً بشسع النعل هبّ غاضباً مفجوعاً فجزّ ناصية ناقته وهلب ذنبها ويقال قطعه وكان أول من سنّ هذه السنّة فصار العرب يفعلونها ليعلنوا عزمهم على الأخذ بالثأر.

وانطلق الحارث فحصد من أهل تغلب ما حصد مُقسِماً ألّا يصالحهم حتى تكلمه الأرض، ولما أرهقهم وأرهبهم حفروا في الأرض وأدخلوا فيها رجلاً خاطبه مسائلاً إياه التوقف: "حنانيك بعض الشرّ أهون من بعضِ" ثم قيل للحارث "بُر قسمك فأبق بقية قومك" مشيرين إلى أن الأرض كلمته كما أراد، فامتثل، واصطلحت القبيلتان.

 

قصيدة رثاء وإعلانِ حرب:

 

انتهت حرب البسوس وتركت خلفها إرثاً من حكايات العرب وقصيدةَ رثاء مزلزلة حماسية قالها الحارث حين مقتل ابنه وعزمِه للخروج محارباً:

قتلوه بشسع نعل كليبٍ

إن قتل الكريم بالشسع غالِ

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

قربا مربط النعامة مني

ليس قولي يراد لكن فعالي

 

تلوح لنا الأبيات لتقص الكثير عن صراعات السيادة وعمّا تفعله الحروب حتى بمن أدار ظهره لها، عن بركان الغضب كيف يثور بعد حِلم فيغدو في حصاده أعمى، وعن وفاء الرجال بعهودهم وبرّهم بقسمهم إذا أقسموا، وندرك أننا كلما توقفنا ملياً عند القصائد الخالدة خرجت لنا من جعبتها قصص عربية أسطورية شائقة.

 

استمعوا إلى المزيد من التفاصيل عن قصة الشاعر وقصيدته كاملة في برنامجنا المميز وحي القصيد

 

 

 

المصادر:

جمهرة خطب العرب، أحمد زكي صفوت، دار الكتب العلمية

 

كتاب أعلام٢، خير الدين الزركلي، الناشر islamic books