العقوبات: حربٌ بلارصاص، وخنقٌ بلا دخان
تخيّل أن تستيقظ ذات صباح فتجد أن حياتك المعتادة قد انقلبت رأسًا على عقب:
الدواء الذي تنتظره لأيام غير متوفر. مدرسة طفلك صارت أنقاضًا. المستشفى القريب لا يملك جهاز تخدير لإنقاذ حالة طارئة.
في السوق، الرفوف فارغة والأسعار متضخّمة كأنها كُتبت بلغة مالية من عالم آخر.
الكهرباء لا تزورك إلا على استحياء، والإنترنت رفاهية محجوبة. أما الدفء؟ فهو حلم بعيد في ليالٍ باردة بلا نهاية.
كل ما في الأمر، أن قرارًا اتُّخذ على بعد آلاف الأميال، يحمل عنوانًا باردًا: "عقوبات اقتصادية".
لكنّ هذا المصطلح البيروقراطي يخفي وراءه واقعًا من الانهيار اليومي لحياة الملايين. فالعقوبات، وإن لم تُطلق رصاصة واحدة، تستطيع تضييق حياة شعب بأكمله حتى الاختناق، من خلال إجراءات تبدو قانونية على الورق، لكنها تنتزع الحياة من تفاصيلها الحيوية: من الغذاء، من الدواء، من الكرامة.
في هذا المقال، نعيد قراءة العقوبات لا كمجرد أدوات سياسية، بل كممارسات لها تاريخ وأثر ملموس في حياة البشر. نركّز على الحالة السورية، لكن نعود إلى أمثلة سابقة — من العراق إلى كوبا — لنفهم كيف يمكن لـ"قرار إداري" صادر من عاصمة غربية أن يُعيد تشكيل مصير أمة بأكملها.
من الحصار القاري إلى الاقتصاد المعاقب: العقوبات في التاريخ الحديث
ظهرت العقوبات الاقتصادية كأداة في العلاقات الدولية منذ القرن التاسع عشر، حين حاول نابليون بونابرت فرض حصار تجاري على بريطانيا فيما عُرف بـ"الحصار القاري" (Blocus Continental). لم تنجح تلك التجربة بالكامل، لكنها دشّنت فصلًا جديدًا من الحروب الصامتة.
لاحقًا، وبعد الحرب العالمية الثانية، نص ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 على حق مجلس الأمن في فرض عقوبات على الدول التي تهدد السلم والأمن الدوليين. منذ ذلك الحين، أصبحت العقوبات – لا سيما الاقتصادية منها – بديلاً شائعًا للتدخلات العسكرية، خصوصًا في ظل تكاليف الحروب الباهظة وعدم ضمان نتائجها.
تشمل العقوبات أنواعًا متعددة: من تجميد الأصول المالية، إلى حظر استيراد المواد الحيوية، ومنع تصدير التكنولوجيا أو الوقود أو الأدوية، أو حتى تقييد المعاملات البنكية والتأمين والشحن. تُفرض عادة بهدف "تغيير السلوك السياسي" للدولة المستهدفة، لكن الواقع أنه في كثير من الأحيان تحمل عبئها الشعوب لا الأنظمة.
أمريكا والعقوبات: شرطي العالم الجديد
تُعد الولايات المتحدة الدولة الأوسع استخدامًا لسلاح العقوبات في العالم. بفضل هيمنتها على النظام المالي الدولي سواء باستخدام الدولار أو "سويفت" بات بإمكانها فرض عزلة اقتصادية خانقة على أي دولة خارجة عن إرادتها السياسية.
عانت دول عديدة من هذه العزلة: إيران، كوريا الشمالية، فنزويلا، روسيا، والعراق قبل عام 2003. وفي المنطقة العربية، كانت سوريا آخر حلقة في هذه السلسلة الطويلة.
منذ عام 1979، فرضت واشنطن عقوبات على سوريا، تصاعدت بشكل دراماتيكي مع اندلاع الثورة في 2011، وتحوّلت إلى حصار شامل مع صدور "قانون قيصر" عام 2020، الذي شمل كل ما يمكن أن يُستخدم كأداة للبقاء: من الإسمنت إلى أجهزة التخدير.
في 13 أيار/مايو 2025، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا، في خطوة مفاجئة جاءت عقب لقاء غير مسبوق مع الرئيس السوري للفترة الانتقالية الجديدة في دمشق. لكن الخسائر التي راكمتها تلك العقوبات لا تُمحى بإعلان، بل تحتاج إلى سنوات من إعادة البناء — ماديًا، ونفسيًا.
الصحة والتعليم... في مرمى النيران الباردة
رغم التصريحات المتكررة بأن "العقوبات لا تستهدف المدنيين"، إلا أن الواقع يُكذب ذلك باستمرار. ففي سوريا، كما في العراق سابقًا، انهار القطاع الصحي تحت وطأة العزل المالي.
تقرير لجامعة لندن للاقتصاد (LSE) صدر في أبريل 2020 أشار إلى أن شركات الشحن والتأمين ترفض التعامل مع سوريا، ما أدى إلى نقص حاد في المواد الأولية الدوائية وارتفاع تكاليف الإنتاج. النتيجة؟ اختفاء أدوية الضغط والسكري، وصعوبة تأمين أدوية السرطان، وتوقف خطوط إنتاج حيوية.
حتى المستشفيات لم تسلم. انقطعت سبل إصلاح أجهزة غسيل الكلى أو توفير التخدير، وتجاوزت كلفة بعض الأجهزة الطبية نسبة 50% من سعرها السابق، إذا ما تمكنت من دخول البلاد أصلاً.
أما التعليم، فقد دفع ثمن الحرب والعقوبات معًا. يشير تقرير لمركز كارتر (2025) إلى أن أكثر من 3700 مدرسة في سوريا بحاجة إلى إعادة تأهيل. الفصول مكتظة، والكهرباء منقطعة، والمرافق متهالكة. في بلد لم تعد فيه "الوسائل التعليمية" أولوية، صار التعليم رفاهية، والجهل واقعًا مؤلمًا.
العقوبات ليست بديلاً عن العدالة
ربما تكون العقوبات أداة مشروعة في القانون الدولي، لكنها، حين تُفرض بلا حدود زمنية أو مراجعة إنسانية، تتحول إلى عقوبة جماعية. والمفارقة أن الأنظمة المستهدفة غالبًا ما تتكيّف، بينما تنهار حياة المواطنين العاديين.
لم تُسقط العقوبات نظام صدام حسين في العراق، لكنها قتلت مئات آلاف الأطفال بسبب نقص الدواء. ولم تُزح الأسد عن السلطة، لكنها أسقطت المستشفيات والمدارس في طريقها.
رفع العقوبات عن سوريا لا يعني فقط عودة المنتجات الأجنبية أو إنارة الشوارع، بل يعني، في جوهره، فرصة للشعب ليبدأ حياة جديدة. حياة لا تقوم على البقاء، بل على الكرامة. لا تكتفي بالخبز، بل تطمح للحرية، والتعليم، والرعاية الصحية كحقوق وليست امتيازات.
من التاريخ.. إلى أفق جديد
لم تكن العقوبات يومًا أداة محايدة. عبر التاريخ الحديث، تكرّرت النتيجة ذاتها: الأنظمة تزداد شراسة في الداخل، بينما يُسحق الشعب تحت وطأة الحصار.
في العراق (1990–2003)، تسببت العقوبات المفروضة من الأمم المتحدة والولايات المتحدة بانهيار البنية التحتية الصحية والتعليمية، وأدت، وفقًا لتقارير اليونيسيف، إلى وفاة مئات آلاف الأطفال نتيجة نقص الأدوية والأغذية.
في كوبا، استمرت العقوبات الأمريكية منذ 1962، دون أن تُسقط النظام، لكنها فاقمت عزلة الجزيرة وقيّدت التنمية الاقتصادية، لا سيما في قطاعات مثل الصحة والتكنولوجيا.
في إيران، وعلى الرغم من تبدل الإدارات الأمريكية، حافظت العقوبات على نمطها الخانق، ما انعكس على توفر الأدوية وارتفاع نسب التضخم، دون أن تغيّر من طبيعة النظام.
في سوريا، أصبحت العقوبات واحدة من أدوات العقاب الجماعي، حيث لم تُفضِ إلى انتقال سياسي، بل ساهمت في تعميق المأساة اليومية لملايين المدنيين.
ما يتكرر في هذه الأمثلة هو النمط ذاته: تُفرض العقوبات باسم السياسة، لكن أثرها يتسلل إلى الخبز، والدواء، والمدرسة، والكرامة.
رفع العقوبات عن سوريا لا يعني إنهاء المعاناة بين ليلة وضحاها، لكنه قد يكون اللحظة التي يبدأ فيها الشعب السوري باسترداد نفسه، خارج المعادلات الجيوسياسية، وخارج ثنائية "الطاغية أو الفوضى".
ربما لا تحمل السياسات وحدها حلولًا عادلة، لكن التاريخ يُظهر أن المعاقَبين ليسوا دائمًا المسؤولين. كما قال المفكر السياسي مايكل والزر، في معرض حديثه عن الأخلاق والحرب:
"العقوبات ليست سلاحًا نظيفًا؛ إنها تصيب الهدف ولكنها تؤذي من يقف حوله."
"Sanctions are not a clean weapon. They hit the target, but they wound everyone standing nearby."
— Michael Walzer, Just and Unjust Wars
وفي السياق السوري، لم يعد السؤال: هل فُرضت العقوبات لأسباب محقة؟ بل: هل استحق الأبرياء دفع كل هذا الثمن؟