النابغة الذبياني …أشعر العرب
يمر المبدعون في حياتهم بمطبات وعراقيل، لعل أحدها يتجلى في حسد الخصوم ومكائد المنافسين، كلما لمع نجمهم ازداد المتربصون غيظاً، خاصة إن نالهم حظوة عند ذوي الشأن.
ومبدعو العرب ونجومهم في العصر الجاهلي هم الشعراء، إذ كان الشعر مقدراً يرفع صاحبه ويقلّده وساماً وشرفاً ومكانة عالية رفيعة.
النابغة، لقبٌ يفوز على الاسم الحقيقي:
قلما يعرفه أحد باسمه زياد بن معاوية بن ذبيان، بل يُعرَف بلقبه: النابغة الذبياني، ويكنى بأبي أمامة.
تتعدد الروايات حول سبب تلقيبه بالنابغة، فقيل لُقب به لأنه قال الشعر دون أن يرثه من أقاربه ولم يكن في قبيلته شاعر بارز، وقيل إن اللقب قد يكون من باب المجاز، فالعرب تقول نبغت الحمامة إذا أرسلت صوتها في الغناء ونبغ الماء إذا غزر، وبناء على ذلك يُعدّ الشاعر نابغةً إذا غزرت مادة شعره وكثرت.
قيل: لا يرمي إلا صائباً:
يُصنَف النابغة بين شعراء الطبقة الأولى إن لم يكن رأسها بعد امرئ القيس، برع في المديح والاعتذار، وأتقن انتقاء الألفاظ بعناية ووضعها في مواضعها الصحيحة، فهو جزل في أوصافه الصحراوية، ورقيق عذب واضح العبارة إذا وصف حالات الوجدان.
حظوة لدى طرفين متنازعين وحياةٌ مُنعَّمة:
وفي عصر تنازع فيه المناذرة التابعون للفرس والغساسنة التابعون للروم استطاع النابغة بدهاء ومرونة أن يصبح ذا شأن لدى الطرفين، فنَعِم بترف العيش وهدأة الحياة ونال ما لا يناله الشعراء بسهولة إذ يذكر أبو الفرج في أغانيه أن النابغة كان يأكل ويشرب في آنية من الفضة والذهب.
النابغة في دور الشاعر السياسي وشاعر القبيلة:
وقعت على زمانه حرب "السباق" فخاض غمارها بشعره لا بسيفه، كان همّه خلالها أن يرجح كفة قومه ذبيان على عبس فارتكز على شعره ليصطنع الأحلاف لقبيلته من أحياء العرب ومن بينها بنو أسد.
واستحق أن يعتبَر شاعر قبيلته بامتياز حينما كان يتوسط لقومه عند الغساسنة، فكلما انشغل الغساسنة والمناذرة في حروبهم انتهزت القبائل العربية الفرصة لتغير على أرض غسان طمعاً بالغنائم، وذبيان قوم الشاعر من بين هؤلاء المغيرين، وكان الغساسنة يوقعون بهم ويأسرونهم ويقع رجال من الفزارة أقرباء ذبيان في قبضتهم فيتدخل النابغة بثقله ويتوسط عند الأمراء شافعاً لهم.
حسد الخصوم يخرجه من بلاط النعمان:
أما علاقته الأقوى فكانت بالنعمان بن المنذر ملك المناذرة وقتها، أُعجب النعمان بشعره وأجزل له عطاء وافراً واعتاد الذبياني مدحه فغدا شاعره الخاص ونديمه المفضَل.
هنا بدأت مكائد الحاسدين فحفروا له ليفسدوا علاقته بالملك، وتقول الروايات إن وصفه الدقيق في شعره للمتجردة امرأة النعمان هو ما نزغ بينهما، خاصة مع وجود خصمه المنخّل الذي أوغر صدر النعمان عليه بقوله: "والله لا يستطيع أحد أن يقول هذا الشعر إلا من جرب"، وتفترض رواية أخرى أنّ النابغة هجا النعمان حين قال:
قبّح الله ثم ثنّى بلعنٍ
وارث الصائغ الجبان الجهولا
من يضر الأدنى ويعجز عن ضـ
ـر الأقاصي ومن يخون الخليلا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو
ثم لا يرزأ العدو فتيلا
وأياً كانت الأسباب فالمؤكد أن أواصر الصِلة انفصمت وهرب النابغة لاجئاً إلى الغساسنة فلمّا توفرت أسباب عودته إلى النعمان ترك جوارهم.
ذلك أن النعمان اغتم لإقامة شاعره عند الغساسنة وأراد استرجاعه، وكان قد جاءه رجلان من فزارة فضرب لهما قبة ولم يعلم من يرافقهما، وسمع مغنية تغني أبياتاً من قصيدة النابغة يا دار ميّة:
انبئت أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأر من الأسد
ليقول النعمان: "هذا شعر علوي، هذا شعر النابغة!" وهو قول يوضح معرفة الملك بشعر شاعره وانبهاره به وشوقه لسماعه، عندها سأل عنه وأُخبِر أنه مع صديقيه الفزاريين فأمّنه من جديد.
نهاية رحلة النابغة:
وككل مُلك له خاتمة انتهى حكم النعمان بن المنذر حينما غضب عليه الفرس، وبذلك انتهت رحلة النابغة هناك، وعاد إلى قومه لتتضارب الأقوال حول نهايته، يُذكَر فيما يذكَر أنه أسَنّ جداً وترك قول الشعر، أو لعله هام في اليمن وأصابه الخرف، وفي قول ثالث يُظَن أنه مات في السنة التي قُتل فيها النعمان، الملك الذي امتدحه طويلاً، ثم فرّ منه والغيظ والحسرة تملأ قلبه، ثم عاد إليه معتذراً وكتب في ذلك القصيدة الاعتذارية معبراً عن ندمه حتى وصلت إلينا قاصّة علينا حكاية شائقة بين ملك وشاعر:
عَفا ذو حسًى مِن فَرتَنى فَالفَوارِعُ
فَجَنبا أَريكٍ فَالتِلاعُ الدَوافِعُ
فَمُجتَمَعُ الأَشراجِ غَيَّرَ رَسمَها
مَصايِفُ مَرَّت بَعدَنا وَمَرابِعُ
تَوَهَّمتُ آياتٍ لَها فَعَرَفتُها
لِسِتَّةِ أَعوامٍ وَذا العامُ سابِعُ
أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لُمتَني
وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ
مَقالَةُ أَن قَد قُلتَ سَوفَ أَنالُهُ
وَذَلِكَ مِن تِلقاءِ مِثلِكَ رائِعُ
أَتاكَ اِمرُؤٌ مُستَبطِنٌ لِيَ بِغضَةً
لَهُ مِن عَدوٍّ مِثلَ ذَلِكَ شافِعُ
أَتاكَ بِقَولٍ لَم أَكُن لِأَقولَهُ
وَلَو كُبِلَت في ساعِدَيَّ الجَوامِعُ
استعموا المزيد حول شاعرنا وفراقيته المميزة في حلقتنا المميزة "النَّابِغَةُ الذُّبيانيُّ- الاعتِذاريَّةُ" من بودكاست وحي القصيد.
….
المصادر
ديوان النابغة الذبياني، المحرر عباس عبد الساتر، ٢٠١٦، دار الكتب العلمية
ديوان النابغة الذبياني، المحرر عمر فاروق الطباع، ٢٠١٦، دار الأرقم