ابن زريق البغدادي …القصيدة اليتيمة

 

 

من أشد ما يؤلم النفس الندم بعد فوات الأوان فإن كان النادم شاعراً عاشقاً ومشغوفاً مفارقاً لحبيبته، يتضخم ذاك الشعور المرّ في قلبه ولن يكون مستبعَداً أن يتمكّنَ منه فيقتله.

 

مشاعر جارفة تودي بالشعراء:

 

إن الناظر لحكايات الشعراء العاشقين يلمس لديهم رقّة منقطعة النظير جعلت عشقهم جارفاً شديداً، ومن ثَم جعلت عدم قدرتهم على الاجتماع بمحبوباتهم سبباً لعنائهم وتكدّر عيشهم وهم يذكرون أسماء حبيباتهم في أشعارهم حتى اللحظة الأخيرة، فالمرقّش الأكبر أعياه حب أسماء ولفظ آخر أنفاسه وهو ينشد الشعر فيها، وكذلك جميل بثينة الموصوف بشاعر العشق وإمام المحبين والقائل:

يقولون جاهدْ، يا جميلُ، بغزوة

وأيّ جهاد غيرهن أريد

لكل حديث عندهنَّ بشاشة

وكل قتيل بينهنَّ شهيد

 

وبذكر جميل بثينة يحضرنا كثير عزة الذي قيل إنه يُعَد من تلاميذ جميل لاهتمامه بحفظ أشعاره وجمعها وسيرِه على منواله ونهجه ليس في الشعر فحسب بل في عِظم الحب والتعلق بعزة محبوبته التي قال فيها:

وما كنت أَدري قَبلَ عَزَّةَ ما البُكا

وَلا مُوجِعاتِ القَلبِ حَتَّى تَوَلَّتِ

 

وهل من شاعر يعبّر عن حالة العشق المزلزل هذه كمجنون ليلى؟ شاعر غزل نَجدِي مرهف الحواس، تسبب هوسه بليلى بتلقيبه بالمجنون رغم أنه لم يكن مجنوناً سوى بها، بلغ تعلّقه أن ينصح الناس والده بنقله إلى مكة ليتعلق بأستار الكعبة ويتضرع عساه يتخلص من وَجْده لكنه لما وجد نفسه بجوار الكعبة تضرع إلى اللّه: "اللهم زدني لليلى حباً وبها كلفاً ولا تنسني ذكرها أبداً."

 

والأسماء الواردة هذه على سبيل المثال لا الحصر، ففي جعبة التاريخ الشعري الكثير من قصص الحب التي أخفقت في اللقاء وأفلحت في إذكاء الإبداع الحزين عبر قصائد يتوقف القارئ عندها ليتساءل عن مدى رقة قائليها في أزمنة الفرسان والملاحم البطولية التي قد يُظَن خلوّها من هكذا شغف فيأتي الشعر لينفي ذلك.

إلا أن أحد هؤلاء الشعراء لم يقتله الحب وحده ولا تعذُر وصل المحبوبة، بل قتله ندمه وشوقه وفراقٌ أحدثه بنفسه باعد بينه وبين حبيبته وتركه وحيداً في بلاد غريبة.

 

ابن زريق البغدادي، الشاعر الفقير:

 

هو أبو الحسن علي بن زريق، شاعر عباسي عاش في الكرخ وكان من فقراء الكتبة في ديوان الرسائل في وقت ضعفت فيه الخلافة العباسية وتصدّرَ الأمراء الأعجميون فلم يستطع الشاعر الذي لم يكن من حيلة في يده سوى شعره أن ينتفع به لأنهم وإن فهموا العربية لكنهم لم يتذوقوا الشعر.

 

ليست خاتمة قصة ابن زريق هي وحدها الحزينة، فمِن ارتحالِه لمدح الأمراء والولاة كي يجمع مال زواجه من ابنة عمه التي يحبها يتضح أنه خاض حياة صعبة عاكسته فيها الحظوظ والظروف.

 

لم ينقَل لنا من شعره سوى قصيدة واحدة فقط وهذا ما جعله يُصنَف ضمن شعراء الواحدة، قصيدة توحي بشاعر قوي متمكن قال عنها الشاعر سليمان البستاني: "وأي حنين أوقع في النفس وأعظم إيثاراً للعاطفة وأصدق لربة شعر المولدين من فراقية أبي الحسن؟"

 

وتأتي القصيدة في بضعة وثلاثين بيتاً من الغزل الصادق المشوب باللوعة والمرارة، وتدل على خبرة قائلها بالحياة وفهمه للناس، فضلاً عن ملكته اللغوية الفائقة.

 

سفر شاقّ من بغداد إلى الأندلس:

 

استمرت الصعوبات الحياتية وضيق ذات اليد يلاحقان ابن زريق فعزم الرحيل إلى الأندلس رغم ما في ذلك من مشقّة نظراً للبعد بين المدينتين واستغراق السفر بينهما شهوراً طويلة.

زوجته كانت راضية بالحال ونصحته بالبقاء متوسلة إليه ألا يتركها لكنه طمع بحياة أكرم وتأمل أن يأتيها بالخيرات، فسافر ليمدح أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي الذي نقدَه جائزته، فلما اطلع ابن زريق عليها أصابه الأسى واسترجع قائلاً: "إنا لله وإنا إليه راجعون، سلكت البراري والقفار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر؟!"

 

واشتد عليه القهر فسكب مشاعره في كلماتِ فراقيةٍ رائعة بقدر إيلامها، ولم تُذكَر بغداد في قصيدته إلا مرة واحدة وكأنه لم يرَ فيها سوى وجه زوجته ولم يطمع منها إلا بعيشهما معاً.

أستودع الله في بغداد لي قمراً

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبودّي لو يودعني

صفو الحياة وأني لا أودعه

 

اختبار أو دعابة قتلا ابن زريق:

 

صباح اليوم التالي أرسل أبو الخير رجاله إلى الخان الذي يبيت فيه ابن زريق ليمنحه جائزته الحقيقية، إذ أن العطاء الهزيل الذي أعطاه إياه في البداية قيل إنه كان اختباراً أو دعابة، لكنهم لم يدركوا الشاعر، فالموت كان أقرب إليه.

وعند رأسه عثروا على القصيدة التي دوّنها باثّاً عبرها لوعته وندمه لأنه لم يستمع لزوجته.

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ

قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ

مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ

مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ

 

واستسلم في خاتمة أبياته لموت رآه بعينيه وأحس قربه فأنهاها ببيتٍ سطّر أشدّ أحاسيس الخيبة والندم:

وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ

فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ؟!

 

استعموا المزيد حول شاعرنا وفراقيته المميزة في حلقتنا المميزة "فراقية ابن زريق" من بودكاست وحي القصيد.

 

 

 

المصادر:

شعراء الواحدة أدب رفيع وشعر بديع، عيسى السعدي، ٢٠١٢، أمواج للنشر

 

ديوان شاعر جبل عامل، إبراهيم يحيى، ٢٠١٦، دار الفارابي.

 

بغداد سيرة مدينة، نجم والي، ٢٠١٧، دار الساقي